فصل: باب في قيام الليل وفضله والأسباب الميسرة لقيامه ونحو ذلك:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر منهاج القاصدين (نسخة منقحة)



.فصل في اختلاف الأوراد باختلاف الأحوال:

اعلم أن السالك لطريق الآخرة لا يخلو من ستة أحوال: إما أن يكون عابداً، أو عالماً، أو متعلما، أو والياً، أو محترفاً، أو مستغرقا بمحبة الله عز وجل مشغولاً به عن غيره.
الأول: العابد: وهو المنقطع عن الأشغال كلها إلى التعبد، فهذا يستعمل ما ذكرنا من الأوراد، وقد تختلف وظائفه، فقد كانت أحوال المتعبدين من السلف مختلفة، فمنهم من كان يغلب على حاله التلاوة، حتى يختم في يوم ختمة، أو ختمتين، أو ثلاثاً، وكان فيهم من يكثر التسبيح، ومنه من يكثر الصلاة، ومنه من يكثر الطواف بالبيت.
فإن قيل: فما الأولى أن يصرف إليه أكثر الأوقات من هذه الأوراد؟
فاعلم أن قراءة القرآن في الصلاة قائما مع التدبر يجمع الجميع، ولكن ربما عسرت المواظبة على ذلك، والأفضل يختلف باختلاف حال الشخص، ومقصود الأوراد تزكية القلب وتطهيره، فلينظر المريد ما يراه أشد تأثيراً فيه فليواظب عليه، فإذا أحس بملل انتقل عنه إلى غيره.
قال أبو سليمان الداراني: فإذا وجدت قلبك في القيام فلا تركع، وإذا وجدته في الركوع فلا ترفع.
الثاني: العالم: الذي ينتفع الناس بعلمه في فتوى، أو تدريس، أو تصنيف، أو تذكير، فترتيبه في الأوراد يخالف ترتيب العابد فإنه يحتاج إلى المطالعة في الكتب، والتصنيف والإفادة، فان استغرق الأوقات في ذلك، فهو أفضل ما يشتغل به بعد المكتوبات، وإنما نعنى بالعلم المقدم على العبادة الذي يرغب في الآخرة، ويعين على سلوك طريقها، والأولى بالعالم أيضاً أن يقسم أوقاته، لأن استغراق الأوقات في العلم لا تصبر عليه النفس، فينبغي أن يخص ما بعد الصبح إلى طلوع الشمس بالأذكار والأوراد على ما ذكرنا، ثم ما بعد طلوع الشمس إلى الضحى في الإفادة والتعليم، فإن لم يكن عنده من يتعلم، صرف ذلك الزمان إلى التفكير في العلوم، فان صفاء القلب بعد الفراغ من الذكر وقبل الاشتغال بهموم الدنيا يعين على التفطن للمشكلات، ثم من ضحوة النهار إلى العصر للتصنيف والمطالعة، لا يترك ذلك إلا في وقت أكل، أو طهارة، أو مكتوبة، أو قيلولة، ومن العصر إلى اصفرار الشمس بسماع ما يقرأ عليه من تفسير، أو حديث، أو علم نافع، ومن الاصفرار إلى الغروب يشتغل بالاستغفار والتسبيح، فيكون ورده الأول من عمل اللسان، والثاني في عمل القلب بالتفكير، والثالث في عمل العين واليد والمطالعة والنسخ، والرابع بعد العصر صفى عمل السمع لتتروح العين واليد، فان المطالعة والنسخ بعد العصر ربما أضر بالعين.
وأما الليل: فأحسن قسمة فيه قسمة الشافعي رحمه الله، فانه كان يقسمه ثلاثة أجزاء: الثلث الأول لكتابة العلم، والثاني للصلاة، والثالث للنوم، فأما الصيف، فربما لا يحتمل ذلك، إلا إذا كان أكثر النوم بالنهار.
الثالث: حال المتعلم: فإن المتعلم أفضل من التشاغل بالأذكار والنوافل، وحكم المتعلم حكم العالم في ترتيب الأوراد، لكنه يشتغل بالاستفادة حين يشتغل العالم بالإفادة، وبالتعليق والنسخ حين يشتغل العالم بالتصنيف، فإن كان من العوام كان حضوره مجالس الذكر والعلم والوعظ أفضل من اشتغاله بالأوراد المتطوع بها.
الرابع: توالى: مثل الإمام، والقاضي، أو المتولى للنظر في أمور المسلمين، فقيامه بحاجات المسلمين وأغراضهم على وفق الشرع وقصد الإخلاص أفضل من الأوراد المذكورة، لأنه عبادة يتعدى نفعها، فينبغي أن يقتصر في النهار على المكتوبات، ثم يستفرغ باقي الزمان في ذلك، ويقنع بأوراد الليل.
الخامس: المحترف: وهو محتاج إلى الكسب له أو لعياله، فليس له أن يستغرق الزمان في التعبد، بل يجتهد في الكسب مع دوام الذكر، فإذا حصل له ما يكفيه عاود الأوراد.
السادس: المستغرق بمحبة الله سبحانه: فهذا ورده بعد المكتوبات حضور القلب مع الله تعالى، وهو يحركه إلى ما يريد من ورده. وينبغي أن يداوم على الأوراد، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أحب العمل إلى الله تعالى أدومه وإن قل». وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عله ديمة.

.باب في قيام الليل وفضله والأسباب الميسرة لقيامه ونحو ذلك:

قال الله تعالى {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} [السجدة: 16]. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة إلى ربكم ومغفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم» وفي فضله أحاديث كثيرة.
وقال الحسن البصري رحمه الله: لم أجد من العبادة شيئاً أشد من الصلاة في جوف الليل، فقيل له: ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوها؟ فقال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره.

.فصل في الأسباب الميسرة لقيام الليل:

اعلم أن قيام الليل صعب إلا من وفق للقيام بشروطه الميسرة له.
فمن الأسباب ظاهر، ومنها باطن.
فأما الظاهر: فأن لا يكثر الأكل، كان بعضهم يقول: يا معشر المريدين لا تأكلوا كثيراً فتشربوا كثيراً فتناموا كثيراً، فتخسروا كثيراً.
ومنها: أن لا يتعب نفسه بالنهار بالأعمال الشاقة.
ومنها: أن لا يترك القيلولة بالنهار، فإنها تعين على قيام الليل.
ومنها: أن يتجنب الأوزار.
قال الثوري: حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أذنبته.
وأما الميسرات الباطنة: فمنها سلامة القلب للمسلمين، وخلوه من البدع، وإعراضه عن فضول الدنيا.
ومنها: خوف غالب يلزم القلب مع قصر الأمل.
ومنها: أن يعرف فضل قيام الليل.
ومن أشرف البواعث على ذلك الحب لله تعالى، وقوة الإيمان بأنه إذا قام ناجى ربه، وأنه حاضره ومشاهده، فتحمله المناجاة على طول القيام. قال أبو سليمان رحمه الله: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن في الليل لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيراً إلا آتاه إياه، وذلك كل ليلة».
وإحياء الليل مراتب:
أحدها: أن يحيى الليل كله، روى ذلك عن جماعة من السلف.
الثانية: أن يقوم نصف الليل، وهو مروى أيضاً عن جماعة من السلف وأحسن الطريق في هذا أن ينام الثلث الأول من الليل، والسدس الأخير منه.
المرتبة الثالثة: أن يقوم ثلث الليل، فينبغي أن ينام النصف الأول، والسدس الأخير، وهو قيام داود عليه السلام. ففي الصحيحين: «أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه»، ونوم آخر الليل حسن، لأنه يذهب آثار النعاس من الوجه بالغداة، ويقلل صفرته.
المرتبة الرابعة: أن يقوم سدس الليل أو خمسه، والأفضل من ذلك ما كان في النصف الأخير، وبعضهم يقول: أفضله السدس الأخير.
المرتبة الخامسة: أن لا يراعى التقدير، فان مراعاة ذلك صعب.
ثم فيما يفعله طريقان:
أحدهما: أن يقوم أول الليل إلى أن يغلبه النوم فينام، فإذا انتبه قام، فإذا غلبه النوم نام، وهذا من أشد المكابدة، وهو طريق جماعة من السلف.
وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه: ما كنا نشاء أن نرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مصلياً من الليل إلا رأيناه، وما كنا نشاء أن نراه نائماً إلا رأيناه. وكان عمر رضي الله عنه يصلى من الليل ما شاء الله، حتى إذا كان من آخر الليل أيقظ أهله، فيقول: الصلاة الصلاة.
وقال الضحاك: أدركت أقواماً يستحيون من الله في سواد هذا الليل من طول الضجعة. الطريق الثاني: أن ينام أول الليل، فإذا أخذ حظه من النوم، وانتبه،، قام الباقي. قال سفيان الثوري: إنما هو أول نومة، فإذا انتبهت لم أقلها.-يعنى: لم ينم-.
المرتبة السادسة: أن يقوم مقدار أربع ركعات أو ركعتين، فقد روينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «صلوا من الليل، صلوا أربعاً، صلوا ركعتين» الحديث.
وفي سن أبي داود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصليا جميعاً ركعتين، كتبا ليلتئذٍ من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات». وكان طالحة بن مصرف يأمر أهله بقيام الليل، ويقول: صلوا ركعتين، فإن الصلاة في جوف الليل تحط الأوزار.
فهذه طرق قسمة الليل، فليتخير المريد لنفسه ما يسهل عليه، فان صعب القيام عليه في وسط الليل، فلا ينبغي أن يخل بإحياء ما بين العشاءين وورد السحر، ليكون قائماً في الطرفين وهذه مرتبة سابعة.

.فصل فيمن صعبت عليه الطهارة في الليل:

فأما من صعبت عليه الطهارة في الليل، وثقلت عليه الصلاة، فليجلس مستقبل القبلة وليذكر الله تعالى، وليدع مهما قدر. فان لم يجلس فليدع وهو مضطجع، ومن كان له ورد فغلبه النوم وفاته، فليأت به بعد صلاة الضحى. فقد ورد ذلك في الحديث. وليحذر من له عادة بقيام الليل أن يتركها، ففي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعبد الله بن عمرو: «لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل».

.فصل في بيان الليالي والأيام الفاضلة:

أما الليالي المخصوصات بمزيد الفضل التي يستحب إحياؤها، فخمس عشرة ليلة ولا ينبغي للمريد أن يغفل عنهن، لأنه إذا غفل التاجر عن موسم الربح فمتى يربح؟! فمن هذه الليالي سبع في رمضان: الليلة السابعة عشرة، وهى التي كانت صبيحتها وقعة بدر، والست الباقية هن أوتار العشر، إذا فيهن تطلب ليلة القدر وأما الثمان الآخر: فأول ليلة من المحرم، وليلة عاشوراء، وليلة النصف من شعبان، وليلة عرفة، وليلتا العيدين. وقد ورد صلوات لبعض هذه الليالي وليس فيها ما يثبت.
وأما الأيام الفاضلة فتسعة عشر يوماً: يوم عرفة، ويوم عاشوراء، ويوم سبع وعشرين من رجب، وهو أول يوم هبط فيه جبريل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويوم سبع عشرة من رمضان كان فيه وقعة بدر، ويوم النصف من شعبان، ويوم الجمعة، ويوما العيدين، والأيام المعلومات وهى عشر ذي الحجة، والأيام المعدودات وهى أيام التشريق. ومن فواضل الأيام في الأسبوع: يوم الاثنين، والخميس، وأيام البيض. وفيها فضل كبير مذكور في فضائل الصوم.
آخر كتاب الأوراد، وهو آخر ربع العبادات، وبالله التوفيق.

.الربع الثاني: ربع العادات:

.باب في الأكل والاجتماع عليه والضيافة ونحو ذلك:

وآداب الأكل، منها ما هو قبله، ومنها ما هو مع الأكل، ومنها ما هو بعد الأكل.
فمن القسم الأول: غسل اليدين قبل الأكل، كما ورد في الحديث، لأنها لا تخلو من درن، ومن ذلك أن يوضع الطعام على السفرة الموضوعة على الأرض، فانه أقرب إلى فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من رفعه على المائدة، وهو أدنى إلى التواضع، ومن ذلك أن يجلس الجلسة على السفرة، فينصب رجله اليمنى، ويعتمد على اليسرى، وينوى بأكله أن يتقوى على طاعة الله تعالى ليكون مطيعاً بالأكل، ولا يقصد به التنعم فقط، وعلامة صحة هذه النية أخذ البلغة دون الشبع. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه، حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه وثلث لنفسه». ومن ضرورة هذه النية أن لا يمد يده إلى الطعام إلا وهو جائع، وأن يرفع يده قبل الشبع، ومع فعل ذلك لم يكد يحتاج إلى طبيب، ومن ذلك أن يرضى بالموجود من الرزق، ولا يحتقر اليسير منه، وأن يجتهد في تكثير الأيدي على الطعام ولو من أهله وولده.
القسم الثاني: في الآداب حالة الأكل: وهو أن يبدأ ببسم الله في أوله، ويحمد الله تعالى في آخره.
ومن ذلك أن يأكل باليمنى ويصغر اللقمة ويجود مضغها، وأن لا يمد يده إلى أخرى حتى يبتلع الأولى، ولا يذم مأكولاً، ومن ذلك أن يأكل مما يليه، إلا أن يكون الطعام متنوعا كالفاكهة، وليأكل بثلاث أصابع، وإذا وقعت لقمة أخذها. ومن ذلك أن لا ينفخ في الطعام الحار، ولا يجمع بين التمر والنوى في طبق واحد، ولا يجمعه في كفه، بل يضعه من فيه على ظهر كفه ثم يلقيه، وكذا كل ماله عجم وثفل، ولا يشرب الماء في أثناء الطعام، فانه أجود في باب الطب.
ومن آداب الشرب أن يتناول الإناء بيمينه، وينظر فيه قبل الشرب، ويمص مصاً لاعبَّاَّ، فقد روى عن على رضي الله عنه: مصوا الماء مصاً ولا تعبوه عبا، فإن الكباد من العب.
ولا يشرب قائماً، ويتنفس في شربه ثلاثاً. ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتنفس في الإناء ثلاثاً. والمعنى يتنفس في شربه في الإناء، بأن يباعد الإناء عنه ويتنفس، لا أن يكون النفس في الإناء.
القسم الثالث: من آداب الأكل ما يستحب بعد الطعام، وهو أن يمسك قبل الشبع ويلعق أصابعه، وأن يسلت القصعة، وليحمد الله، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليه، ويشرب الشربة فيحمده عليها»، ويغسل يده من الغمر.

.فصل فيما يزيد من الآداب بسبب الاجتماع والمشاركة في الأكل:

من ذلك أن لا يبتدئ في الأكل إلا إذا كان معه من يستحق التقدم لكبر سن أو زيادة فضل، إلا أن يكون هو المتبوع. ومنها أن لا يسكتوا على الطعام، بل يتكلمون بالمعروف، ويتحدثون بحكايات الصالحين في الأطعمة وغيرها. ومن ذلك أن يقصد كل منهم الإيثار لرفيقه، ولا يحوج رفيقه إلى أن يقول له: كل، بل ينبسط ولا يتصنع بالانقباض. ومن ذلك أن لا ينظر إلى أصحابه حالة الأكل لئلا يستحيوا. ومن ذلك أن لا يفعل ما يستقذره من غيره، فلا ينفض يده في القصعة، ولا يقدم إليها رأسه عند وضع اللقمة في فيه، وإذا أخرج شيئاً من فيه ليرمى به، صرف وجهه عن الطعام وأخذه بيساره، ولا يغمس اللقمة الدسمة في الخل، ولا الخل في الدسمة، فقد يكرهه غيره، ولا يغمس بقية اللقمة التي أكل منها في المرقة.

.فصل في تقديم الطعام إلى الإخوان:

ويستحب تقديم الطعام إلى الإخوان، روى ذلك عن على رضي الله عنه قال: لأن أجمع إخواني على صاع من الطعام أحب إلى من أن أعتق رقبة. وكان خيثمة رحمه الله يصنع الخبيص والطعام الطيب، فيدعو إبراهيم والأعمش ويقول: كلوا، فما صنعته إلا لكم. ويقدم ما حضر من غير تكلف، ولا يستأذنهم في التقديم، بل يقدم من غير استئذان، ومن التكلف أن يقدم جميع ما عنده. ومن آداب الزائر أن لا يقترح طعاماً بعينه، وإن خير بين طعامين اختار أيسرهما، إلا أن يعلم أن مضيفه يسر باقتراحه، ولا يقصر عن تحصيل ذلك، فقد نزل الشافعي رحمه الله على الزعفراني، وكان الزعفراني يكتب كل يوم رقعة بما يطبخ من الألوان، ويسلمها إلى الجارية، فأخذ الشافعي الرقعة وألحق فيها لونا آخر، فلما علم الزعفراني اشتد فرحه.

.فصل لا تدخل على قوم يأكلون:

ولا ينبغي لأحد إذا علم أن قوماً يأكلون أن يدخل عليهم، فإن صادفهم من غير قصد، فسألوه الأكل، نظر، فإن علم أنهم إنما سألوه حياء منه، فلا يأكل، وإن علم أنهم يحبون أكله معهم، جاز له أن يأكل. ومن دخل دار صديقه فلم يجده وكان واثقاً به عالماً أنه إذا أكل من طعامه سر بذلك، جاز له أن يأكل.

.فصل في آداب الضيافة:

ومن آداب الضيافة، أن يقصد بدعوته الأتقياء دون الفساق، وقال بعض السلف: لا تأكل إلا طعام تقي، ولا يأكل طعامك إلا تقي. وينبغي أن يقصد الفقراء دون الأغنياء.
وينبغي أن لا يهمل أقاربه في ضيافتهم، فان إهمالهم يوجب الإيحاش وقطيعة الرحم. وكذلك يراعى الترتيب في أصدقائه ومعارفه، ولا يقصد بدعوته المباهاة والتفاخر، وبل استعمال السنة في إطعام الطعام واستمالة قلوب الإخوان، وإدخال السرور على قلوب المؤمنين، ولا يدعو من يعلم أنه تشق عليه الإجابة، أو إذا حضر تأذى بالحاضرين بسبب من الأسباب.
وأما آداب الإجابة، فان كانت دعوة عرس، فالإجابة عليها واجبة إذا دعاة المسلم في اليوم الأول، وإن كانت لغيره فهي جائزة، ثم ينبغي أن لا يخص الغنى بالإجابة دون الفقير، ولا يمتنع من الدعوة لكونه صائماً، بل يحضر، فان كان تطوعاً وعلم أن فطره يسر أخاه المسلم فليفطر.
فأما إن كان الطعام حراماً فليمتنع من الإجابة، وكذلك واجبة إذا دعاه المسلم في اليوم الأول، وإن كانت لغيره، فهي جائزة، ثم ينبغي، أن لا يخص الغني بالإجابة دون الفقير، ولا يمتنع من الدعوة لكونه صائماً، بل يحضر، فان كان تطوعا وعلم أن فطره يسر أخاه المسلم فليفطر.
فأما إن كان الطعام حراماً فليمتنع عن الإجابة، وكذلك إذا كان ثمة فرش محرمة، أو إناء محرم، أو مزمار أو صورة، وكذلك إذا كان الداعي ظالماً أو فاسفاً أو مبتدعاً أو مفاخراً بدعوته.
وينبغي أن لا يقصد بالإجابة إلى الدعوة نفس الأكل، بل ينوى به الاقتداء بالسنة، وإكرام أخيه المؤمن، وينوى صيانة نفسه عمن يسئ به الظن، فربما قيل عنه إذا امتنع: هذا متكبر.
وينبغي أن يتواضع في مجلسه إذا حضر، ولا يتصدر، وإن عين له صاحب الدار مكاناً لم يتعده، ولا يكثر النظر إلى المكان الذي يخرج منه الطعام، فإنه دليل على الشره.

.فصل في آداب إحضار الطعام:

وأما إحضار الطعام فله خمسة آداب:
الأول: تعجيله، فذلك من إكرام الضيف.
الثاني: تقديم الفاكهة أولاً قبل غيرها، وذلك أصلح في باب الطب، وقد قال الله تعالى: {وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون} [الواقعة: 20،22].
ثم أفضل ما يقدم بعد الفاكهة اللحم، خصوصاً المشوي، ثم أفضل الطعام بعد اللحم الثريد، ثم الحلوى، وتتم هذه الطيبات بشرب الماء البارد، وتكملة الأمر صب الماء الفاتر على اليد عند الغسل.
الثالث: أن يقدم جميع الألوان الحاضرة.
الرابع: أن لا يبادر رفعها بل يمكنهم من الاستيفاء حتى يرفعوا أيديهم.
الخامس: أن يقدم من الطعام قدر الكفاية، فإن التقليل من الكفاية نقص في المروءة.
وينبغي أن يعزل لأهل البيت نصيبهم قبل تقديم الطعام، فإذا أراد الضيف الانصراف ينبغي أن يخرج معه إلى باب الدار، فإنه سنة، وذلك من إكرام الضيف ومن تمام الإكرام طلاقة الوجه، وطيب الحديث عند الدخول والخروج وعلى المائدة.
وأما الضيف فينبغي أن يخرج طيب النفس وإن جرى في حقه تقصير، فذلك من حسن الخلق والتواضع، ولا يخرج إلا برضى صاحب المنزل وإذنه، ويراعى قلبه في قدر الإقامة.

.كتاب النكاح وآدابه وما يتعلق به:

لا يختلف العلماء في أن النكاح مستحب، مندوب إليه، كثير الفضائل، وفيه فوائد:
منها: الولد، لأن المقصود بقاء النسل، وفيه فوائد محبة الله تعالى بالسعي لذلك، ليبقى جنس الإنسان. وفيه طلب محبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تكثير من به مباهاته.
وفيه طلب التبرك بدعاء الولد الصالح والشفاعة بموت الولد الصغير.
ومن فوائد النكاح: التحصن من الشيطان بدفع غوائل الشهوة. وفيه ترويح النفس، وإيناسها بمخالطة الزوجة. ومنها: تفريغ القلب عن تدبير المنزل، والتكفل به بشغل الطبخ والكنس والفراش وتنظيف الأواني وتهيئة أسباب العيش، فإن الإنسان يتعذر عليه أكثر ذلك مع الوحدة، ولو تكفل به لضاع أكثر أوقاته، ولم يتفرغ للعلم والعمل، فالمرأة الصالحة عون على الدين بهذه الطريقة، إذ اختلال هذه الأسباب شواغل للقلب. ومن فوائده أيضاً: مجاهدة النفس ورياضتها بالرعاية والولاية، والقيام بحقوق الأهل، والصبر على أخلاقهن، واحتمال الأذى منهن، والسعي في إصلاحهن وإرشادهن إلى طريق الدين، والاجتهاد في كسب الحلال لأجلهن، والقيام بتربية الأولاد، وكل هذه أعمال عظيمة الفضل، فإنها رعاية وولاية، وفضل الرعاية عظيم، وإنما يحترز منها من يخاف القصور عن القيام بحقها، ومقاساة الأهل والولد بمنزلة الجهاد في سبيل الله عز وجل. وفي أفراد مسلم، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أفضلها الذي أنفقته على أهلك».

.فصل في آفات النكاح:

وفي النكاح آفات:
أقواها: العجز عن طلب الحلال، فان ذلك يصعب، فربما امتدت يد المتزوج إلى ما ليس له.
الثانية: القصور عن القيام بحقوق النساء، والصبر على أخلاقهن وأذاهن، وفي ذلك خطر، لأن الرجلَ راعٍ وهو مسئول عن رعيته.
الثالثة: أن يكون الأهل والولد يشغلونه عن ذكر الله عز وجل، فينقضي ليله ونهاره بالتمتع بذلك، فلا يتفرغ القلب للفكر في الآخرة والعمل لها، فهذه مجامع الآفات، والفوائد، فالحكم على شخص واحد، بأن الأفضل له النكاح أو العزوبة مطلقاً مصروف على الإحاطة بمجامع هذه الأمور، بل ينبغي للمريد أن يعرض نفسه على هذه الأحوال، فإن انتفت عنه الآفات واجتمعت له الفوائد، بأن كان له مال حلال وحسن خلق، وهو مع ذلك شاب يحتاج إلى تسكين الشهوة، ومنفرد يحتاج إلى تدبير المنزل، فلا شك أن النكاح أفضل، وإن انتفت هذه الفوائد واجتمعت فيه الآفات، فتركه أفضل، وهذا في حق من لم يحتج إلى النكاح، فإن احتاج إليه فانه يلزمه.